11‏/12‏/2016

الساحرة الطيبه


قالت له :أنا ابنة تلك المدينة التي تطل على الميناء، حيث تكون وجوه الغرباء هي الأقرب إليك ودموع الوداع تعانق دموع اللقاء.
أنا هنا حيث ينتفض قلب مودع، ليخفق أخر في انتظار قادم، أتدرك معنى أن ترى الوطن تتغير معالمه في الوجوه، البعض لا يغادر وطنه أبدا حتى وإن تركه لسنوات، والبعض لا يعلم عن الوطن شيء إلا مجرد بعض حروف على أوراق.
نظر لها طويلا وهو حائر، وبعد صمت طويل قال لها: كلما اقتربنا ازداد حيرة.
كيف لتلك العيون الصافية أن تحمل كل تلك القوة بداخلها
نظرت له وابتسمت وقالت: أتدرك معنى أن تمضى في تلك الحياة وحيدا؟
ستتعلم حينها أن تمنح نفسك قوة حتى لا تنهار مع تكرار الضربات لك، ستحتفظ بروحك في صندوق محاط بأسلاك شائكة وجدران صلبه، وتتعلم أن لا يكتشف يوما احدهم بأنك قابل للكسر، فحينها سيتعمد كسرك وبعثرتك شظايا على طرقات المدينة، كل احتمالات الفشل تبتعد عنها، فمعنى ألفشل هو إيجاد آلاف الضحكات الساخرة، وآلاف العيون التي تنظر إليك بسخرية فقد فشلت فلنحتفل.
أخذ يُفكر في كلماتها كثيرا، فهي كنجم هارب من مدارة في سماء تتسع لكل شيء إلا لأحلامها، فبعض النجوم تظل شاردة بلا مدار، وحيده في سماء فارغة من نجوم تشبهها، لتعود لمسارها ذات يوم حين تجده.
استيقظت ذات صباح لتكتشف أنها لم تكن أبدا طفله، دائما ما كانت تتسابق هي وسنوات عمرها لتثبت للحياة بأنها تستحق أن تكون فيها بكيان خاص.
كانت طفولتها غريبة، تمتلئ بالأحداث التي جعلت من عقلها ينضج سريعا
وجعلت لقلبها أسوار عالية، لا يستطيع أن يجتازها إلا من تمنحه المفتاح
أو يمتلك تعويذة سحريه، يتلوها على تلك الأسوار فتذوب بين يديه ويدخل قلبها بسلام، ولا زالت تحتفظ بالمفتاح، وتنتظر كاهن المعبد الذي سيتلو ذات يوم التعويذة في المحراب.
سعادتها كانت دائما كقطرات الندى تختفي بمجرد أن تلمس أوراق الورد، كانت تشعر بأن سعادتها ليس لها حق في أن تدوم، فهي تولد وعلى جبينها موعد الموت، أمضت سنواتها تشعر بالخوف من أن تقترب من الفرح، فهي تعتقد بأن عدم التجربة أهون كثيرا من أن تستمتع بكل تلك اللحظات وتستيقظ منها سريعا.
البقاء بين أمسيات تباغتك بكل تلك المفاجآت لهو أمر مرهق لمن اعتاد على البقاء على الحياد في الحياة، كانت تخشى العمق رغم أنها كانت تتمتع بقدر كبير من التوغل في المسافات التي تفصل ما بين الحياة وبينها.
هي كانت تباغتك بحضورها القوى حتى انك لا تستطيع إلا أن تستسلم لها، تتحرك إليها في صمت وتستسلم في هدوء وتترك كل مفاتيحك لها على طاولتها وتنصرف لركن بعيد في انتظار خطوتها التالية، كانت تتمتع بتلك النظرة التي تحتضنك وتتركك تشعر بالدفء والانتماء لها، تشعر في لحظات بانسكاب روحك بين ذراعيها والذوبان والانصهار والتوحد معها، هي التي تمتلك ما يكفى من الحنان ليملئ كل فراغات الروح ويداوى كل الأوجاع، في لحظه أن تلمس بأناملها رأسك.
أهي تلك الساحرة الطيبة التي كنا نقرأ عنها في الحواديت التي تمنح الروح السلام وتحقق لنا الأمنيات، ربما تكون هي فعلا جنيته الطيبة التي تحميه.
يأتي الحب حين لا ننتظره أو نتوقعه، انه يأتي حين نفقد الأمل بأنه سيأتي أو انه موجود، يأتي كطفل فوضوي يعبث بكل شيء من حولنا، يأتي حين نكون قد رتبنا كل شيء في مكانه ووضعنا القوانين الصارمة وأغلقنا النوافذ والأبواب وجلسنا حيث نحتسى قهوتنا في هدوء وصمت.
نكتشف بأنه قد تسلل إلى حيث نكون، وأشعل المذياع لتنبعث منه نغمات صاخبة، تكسر صمت المكان، واخذ يقفز في كل مكان ويتراقص من حولنا ويبعثر الأوراق والوسائد، انه طفل فوضوي لا يستطيع أن يجلس في هدوء، أو ربما حين يأتي بموعد وترتيب فهو يرتدى افخر ثيابه ويتقدم بهدوء ويجلس يحتسى معنا فنجان القهوة وهو يستمع إلى لحن فالس هادئ
ويتلوا بعض الأشعار ليبتسم، ويمضى الوقت وينتهي بالملل.
لا تطمئن أبدا لطفل فوضوي، فهو في النهاية طفل سريع الغضب، صعب الإرضاء وفى ذات الوقت سهل جدا أن تداعبه، وترسم على شفتيه ابتسامه رضي حين تفهم لغته، وتستطيع أن تدرك معنى طلاسم حروفه التي يخبرك إياها وهو يقفز من حولك، ويغضب كثيرا ويحطم العابه إذا لم تفهم ماذا يقول؟ أو ماذا يريد؟
انه ذاك الطفل الذي يسكن جسد كل من يمتلك الحب روحه، كانت تجلس في صمت تستمع لتلك الأصوات الخافتة التي تنبعث من داخلها، إنها تصغي لصمتها وتحاول أن تفهم ما الذي تريده لتهدئ روحها الصاخبة، تلك الروح التي تشعر بتوترها وثورتها بداخلها، إنها تنتفض وتتحرك في عصبيه، كم من المرات حاولت أن تمنحها بعض الهدوء، ولكنها أبدا ما استطاعت أن تحتويها أو تهدئ من روعها لتهدئ وتنام.
دائما ما تجتاحها تلك الرغبة في الهروب من بين جدران جسدها، والتحليق عاليا في فضائها الخاص، إنها دائما ما تشعر بالارتباك في حضرته، ترتبك وتتراقص بين ذراعيه كفراشه تتهادى على أطراف مصباح يرسل بضوء خافت ينعكس على جناحيها، فتتمايل وتدور، ولكنها لا تقترب منه
فهي تعلم بأن الفراشات تموت إذا ما لامس الضوء أجنحتها.
كم تمنت أن تقبض على الحلم بيديها، ولكنها تعلم بأن الأحلام تنتهي بمجرد أن تلمسها بأنامل الواقع، دائما ما كانت تنظر لك طويلا حين تدخن سيجارتك بصمت ، كنت تنثر أوراقك وكتبك من حولك بكثير من الفوضى، أصبحت تعتاد تلك اللحظات التي ينتفض فيها سريعا باحثا عن ورقه وقلم ليكتب شيئا، فوضعت في كل ركن يجلس إليه أوراق وأقلام حتى تكون في متناول يده متى أراد أن يكتب، تجلس إلى جواره في انتظار أن ينتهي ليقفز فرحا بما كتب، كطفل وجد ضالته أخيرا.
التزم الصمت ربما لدقائق أو ساعات، فحين تستسلم لكتاباتك تنقطع عن العالم وتسكن محرابك، كثيرا ما حاولت أن اعرف كيف لنا أن نستطيع استيعاب أخر رغم كل الاختلافات بيننا، كيف في لحظه نكتشف بأننا نتشارك عزف لحن مميز يكمل كل منا الأخر فيه.
كان لقاءنا ترتيب من القدر وكثير من المصادفات التي كانت تجمعنا كلما باعدت بيننا الأيام، مارسنا معا كثير من طقوس اليوم، كنا نرى العالم من نافذة مختلفة تخصنا نحن فقط، كنت أحب أن اسمع منك بطولاتك ومغامراتك ونزواتك وإخفاقاتك، كنت اجلس إليك حين تغضب من الدنيا،
اجلس بين يديك صامته واربت على كتفك وأخبرك بأنني دائما ما سأكون هنا إلى جوارك، بأنك أبدا لن تهزمك الأيام سأظل معك، أخبرك بأنني أثق بك.
تمارس غضبك وثورتك إلى أقصى درجاته وتنهض وقد قررت بأنك أبدا لن تنهزم، فابتسم لك وأخبرك بأنني متأكدة من ذلك، ونلعن معا الأيام والإخفاقات وننهض وقد قررنا بأننا معا لن ننهزم.
أمسيات طويلة أمضيناها تحكى لي عن ذكرياتك، عن طفولتك ومراهقتك وشبابك، تحكى وتحكى وأنصت لك في شغف، كلما حاولت أن تتحرر من ذاكرتها هاجمتها الذكريات خوفا من أن تنساها، هي لم تنسى شيء أبدا، ولكنها تحاول أن تخرج من الحيز الضيق الذي تحتجزها بداخله لتتمكن من السير واستكمال الحياة، ولكنها تعلم بأنها تحمل قدرها معها حيث تذهب وحيث ترحل، فهي ذات قدر خاص يلقيها في طريق كل ما تتمنى
ولكن في الوقت الذي لا يناسبها، فدائما لحنها الخاص لا يكتمل، لقد أنهكها القدر، وأنهكها الانتظار، فهي لم تعد تستطيع أن تظل في سباق مع الزمن
فقد مضى منه ما مضى وهى تنتظر تلك اللحظة الحاسمة التي ستتحول فيها لفراشه تخرج من شرنقتها وتحلق بعيدا، ولكن طال الوقت وضاقت بأنفاسها الشرنقة وتقلصت أجنحتها لتظل حبيسة الجدران، لم تبحث يوما عن الحب، ولم تلتقية مصادفة، هي من ظلت عالقة بين أحلام تتمنى أن تحيياها وواقع لا تستطيع أن تتجاوزه، في المنتصف من كل شيء. المنتصف بين قلبها وعقلها، بين مشاعرها المجنونة وعقلها الذي يكبله، بين دقات قلبها وانين عقلها، إنها تقف بينهما دائما حائرة، وحين تشعر بالإرهاق تهرب من الجميع لشرنقتها، وتظل هناك بالأيام لعلها تصل لحل يريحها ويريحهم معها، وحين تعجز عن الحل تتسلل ببطيء للعالم من جديد.
كانت تشتاق لتلك الأحاسيس المختلفة، تشتاق لأن تشعر باللهفة لشيء ما، أن تشعر بأنها مازالت تتنفس الحياة، أصبحت تشعر بالخوف من انسحابها البطيء من الحياة ودخولها لركن بعيد تجلس بين جدرانه وحيده دائما، لقد أصبحت تخشى الوجوه والحديث والملامح المختلفة، كانت ذات يوم تلهو في كل مكان وتشعله بضحكاتها، ولكنها الآن تجلس وحيده صامته تنظر لمن حولها في حيرة وكأنهم يتحدثون لغة لا تفهمها، ولا تستطيع أن تشاركهم إياها.
متى أصبحت غريبة حتى عن ذاتها؟
متى تغيرت من حولها ملامح الأماكن؟
متى تحول البراح إلى مجرد زوايا تضمها دون أن تشعر بها؟
في بعض الأوقات تتمنى لو تستطيع أن تحطم كل المسافات التي تفصلها عن أحلامها، تتمنى أن تجتازها في لحظه فارقه لتصل حيث تريد، ولكنها تتوقف في حيرة، فهي لا تعرف كيف تفعل ذلك أو تتحرر من قيود تكبلها بها الحياة ويجب أن تستسلم لها حتى وإن كان بشكل مؤقت، ستلتزم بتلك الخطوات البطيئة التي تجهل إلى أين تحملها، أو إلى أين ينتهي بها الطريق ولكنه حتما سينتهي لمكان ما، فتلك هي الحياة، كم تمنت رجلا براقص روحها حين يتحدث إليها، ينتقى العبارات والكلمات التي تطرق باب قلبها بلطف وتقتحمه دون أن تنتظر منها أن تسمح له، فالحب الحقيقي هو اجتياح للأخر، هو تلك الحالة التي لا تملك فيها أن ترفض أو تقبل، لا تملك الخيارات، فأنت تستسلم للجنون الكامل فيها وتندفع معها وتذهب لأبعد مدى من الجنون، انه تلك الحالة التي تصل فيها إليك عبر أخر، تتخلل كيانك من الداخل للخارج، وتعاود اكتشافك ورؤيتك من جديد كما لم تراك من قبل، أنخبئ ما نحب من ذكرياتنا في ركن بعيد لنقتات منها حين تضن علينا الدنيا بها من جديد؟
هي اعتادت أن تكون وحيده تطفئ الأنوار، وتفتح النوافذ وتترك المساء يتسلل لها في هدوء، تجلس على كرسيها الذي يحتضنها فتغوص بداخله
فيضمها إليه، فتسكن لمسنده في صمت، تتجول ببصرها في المكان، ذات المكان كل يوم ولكن في كل مرة تكتشف جديد.
لم تعتاد الاستسلام للحياة، ولكنها الآن في تلك المرحلة من الخضوع التام لها والسكون في ذات المكان طويلا في انتظار ما سيحدث وان كان لم يحدث منذ زمن، ترك لها كثير من اللحظات الحلوة واخذ معه الكثير من روحها.
هي حاله من الغليان انطفأت بداخلها كل نيران اللهفة والشوق والانتظار، فلم تعد تنظر لعقارب الساعة وهى تمضى، لا تنظر لتتابع الليل والنهار.
تمارس كل مهام حياتها وفقط، فللنهار طقوسه وللمساء طقوسها هي حيث لا تملك إلا الأحلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق